صفحة سوداء في التاريخ
تعدّ معركة الحرة، التي وقعت في عهد الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، من أبشع الفصول في التاريخ الإسلامي، إذ لم تقتصر على النزاع العسكري فحسب، بل انحدرت إلى مستويات مرعبة من الانتهاكات التي طالت أهل المدينة المنورة. في هذا الحدث المأساوي، استباح الجيش الأموي المدينة لمدة ثلاثة أيام، وقُتل فيها عدد هائل من الصحابة والتابعين، وانتهكت الحرمات بطريقة لم تشهدها المدينة منذ تأسيسها. كانت هذه الواقعة نتيجةً لاعتراض أهل المدينة على خلافة يزيد الذي عرف بسلوكه غير اللائق بشخصية من يتولى قيادة الأمة الإسلامية، ما أدى إلى نقضهم البيعة له وطردهم للوالي الأموي.
عند علم يزيد بما حدث، أرسل جيشًا من الشام بقيادة مسلم بن عقبة، الذي كان معروفًا بقسوته، لقمع ثورة أهل المدينة وردعهم. لكنّ يزيد، في خطوة اعتبرت غريبة ومخالفة للقيم الإسلامية، منح جيشه الضوء الأخضر لاستباحة المدينة بأهلها ومواردها إن لم يستسلموا خلال ثلاثة أيام. وقد ورد في بعض الروايات أنّ مسلم بن عقبة أمر بتنفيذ هذه الأوامر بحذافيرها بعد انتهاء المهلة، مما أدى إلى مذبحة غير مسبوقة.
أرقام مفزعة للضحايا معركة الحرة
تشير المصادر التاريخية إلى أن عدد الضحايا بلغ حوالي عشرة آلاف شخص، موزعين بين صحابة النبي محمد، وحفظة القرآن الكريم، وأبناء الأنصار والمهاجرين، وأعداد كبيرة من الرجال والنساء والأطفال الذين لم يسلموا من وحشية الجيش الأموي. ومن أبرز الأرقام المرعبة التي وردت، مقتل حوالي:
- 700 من حفظة القرآن الكريم.
- 1400 من الأنصار.
- 1300 من القرشيين.
- 3500 من الموالي.
إضافة إلى ذلك، تشير الروايات إلى أن عدد النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب بلغ حوالي ألف امرأة، مما أدى إلى ولادة أطفالٍ من دون زواج لاحقًا، وعُرف هؤلاء الأطفال باسم "أبناء الحرة". وفي هذا، تبرز مأساة النساء اللواتي تم الاعتداء عليهن وإكراههن، في صورة غير مسبوقة في المدينة التي كانت رمزًا للسلام والأمان.
سياق المعركة وخلفياتها
بدأت الأزمة بين أهل المدينة ويزيد بن معاوية نتيجة رفضهم تولي يزيد للخلافة بسبب سلوكه الشخصي الذي رآه أهل المدينة مخالفًا لمبادئ الإسلام وقيمه، حيث قيل إنه كان منشغلاً باللهو والفجور، بالإضافة إلى الاتهامات التي طالت شخصه. ورغم هذا الرفض، كانت ردة فعل يزيد قاسية وعنيفة، إذ أرسل جيشه بقيادة مسلم بن عقبة، الذي حصل على أوامر مباشرة لاستباحة المدينة وتدميرها إن استمر أهلها على موقفهم.
وعندما وصل الجيش الأموي إلى المدينة، منح مسلم بن عقبة أهل المدينة فرصة ثلاثة أيام للعدول عن قرارهم وإعادة البيعة ليزيد بن معاوية. لكنّ أهل المدينة صمدوا في موقفهم، ورفضوا شروط مسلم، ما دفعه إلى إطلاق العنان للجيش الأموي لارتكاب ما يعرف تاريخيًا باستباحة المدينة.
تفاصيل المجازر والانتهاكات
ارتكب الجيش الأموي أفظع الجرائم في حق أهل المدينة. وقُتل المئات من الصحابة وأبنائهم، والتابعين، وكبار حفظة القرآن الكريم، إضافة إلى الأبرياء من النساء والأطفال. وتمت مداهمة البيوت، وسرقة الممتلكات، واستباحة الأموال، وحتى انتهاك حرمات المساجد. كما ذكر المؤرخون أن الجيش لم يتوقف عند القتل، بل تجاوز ذلك إلى تدنيس المسجد النبوي وربط خيولهم داخله، مما أثار غضب المسلمين على مر التاريخ، واعتبر من أكثر الفصول ظلامًا في تاريخ الصراعات الإسلامية.
استباحة المدينة ونتائجها المروعة
بعد انتهاء المهلة، انقضّ الجيش على المدينة، وارتكب جرائم يعجز الوصف عن نقل بشاعتها، حيث تعرّضت النساء للاغتصاب، وتم استباحة المدينة من جميع النواحي لمدة ثلاثة أيام كاملة. ويروي المؤرخون أن مسلم بن عقبة كان يُعرف لاحقًا بـ"مسرف بن عقبة" لكثرة ما سفك من الدماء، إذ ترك الجيش الأموي المدينة مدمرة ومنتهكة. وأطلق على النساء المغتصبات وصف “أبناء الحرة” إشارة إلى الأطفال الذين ولدوا نتيجة هذه الاعتداءات، ليبقى هذا الحدث وصمة عار في تاريخ الحكم الأموي.
معركة الحرة في ذاكرة التاريخ
تعد معركة الحرة مثالًا مؤلمًا على الوحشية التي يمكن أن تصل إليها الصراعات على الحكم، وتوضّح إلى أي مدى يمكن للظلم والطغيان أن يفسد المبادئ ويخلف آثارًا لا تُمحى من الذاكرة. وقد ظلّت هذه المعركة رمزًا للقهر والعنف، وتوثيقًا لفترة مؤلمة في التاريخ الإسلامي، ولا يزال المؤرخون يستحضرونها كأحد الشواهد على النتائج المدمرة لسياسات الاستبداد والانتهاكات في الحكم.
معركة الحرة: عبرة ودروس
تقدم معركة الحرة عبرة للمسلمين ولجميع من يقرأ التاريخ عن عواقب الاستبداد والطغيان، وتؤكد على أهمية الحفاظ على العدالة، وأخلاقيات الحرب، واحترام حقوق الأبرياء، بغض النظر عن الخلافات السياسية. فقد أثبتت هذه المعركة أن الظلم، حتى وإن طال أمده، يترك دائمًا آثارًا كارثية، ويجعل أصحابه موضع إدانة عبر التاريخ.
بقلم : بسام قريشي
المراجــــــــــع:
1.تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك) - للمؤرخ محمد بن جرير الطبري: يعتبر من أهم الكتب التي تغطي أحداث معركة الحرة وأسبابها وتفاصيلها، ويعد مرجعًا موثوقًا عن الفتنة التي شهدها العصر الأموي.
2.الكامل في التاريخ - لابن الأثير: يقدم نظرة شاملة لأحداث معركة الحرة مع تسلسلها الزمني وتحليل تأثيراتها على المجتمع الإسلامي.
3.البداية والنهاية - لابن كثير: يقدم ابن كثير روايات متكاملة عن المعركة وأحداثها وكيف أثرت في تاريخ الإسلام، مع تحليل شخصيات الصراع وأسباب النزاع.
4.تاريخ الإسلام - للذهبي: يغطي هذا الكتاب أحداث الفتنة الكبرى وما تلاها، بما في ذلك معركة الحرة، ويعرض معلومات حول أثرها في عهد يزيد بن معاوية.
5.مروج الذهب ومعادن الجوهر - للمسعودي: يقدم المسعودي في هذا الكتاب رؤية شاملة عن معركة الحرة ضمن سياق سياسي واجتماعي موسع، ويصف الآثار العميقة لها على المجتمع الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Hamad Al kahtany 3 ث
تعتبر معركة الحرة مثالًا مؤلمًا على الصراعات السياسية التي مزقت المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). فهذه الأحداث، رغم قسوتها، تكشف عن تعقيدات التاريخ الإسلامي التي غالبًا ما يتم تجاهلها في المناهج الرسمية. فتحليل هذه “الصفحات السوداء” بشكل موضوعي قد يساعد في فهم أعمق لجذور الفتن والصراعات، ويعزز الوعي بأهمية الوحدة والتسامح في مواجهة الخلافات السياسية والدينية.