تُثير دعوات تطبيق الشريعة الإسلامية في الدولة الحديثة جدلاً محتدماً، ليس فقط حول جدوى هذا التطبيق، بل حول ما إذا كان ما يُسمى "الشريعة" اليوم يعكس فعلاً كلام الله، أم أنه مجرد بناء بشري متشابك مع التاريخ، الثقافة، والمصالح السياسية. إذا كان القرآن، كما يؤمن المسلمون، كلامًا إلهيًا محفوظًا لا يمسّه تحريف، فلماذا تبدو ممارسات الشريعة متناقضة ومتباينة؟ ولماذا تواجه هذه الممارسات انتقادات حادة في سياق القيم الحديثة؟ تنتقد هذه المقالة إشكالية تطبيق الشريعة من خلال ثلاثة محاور: هيمنة التأويلات البشرية، التصادم مع قيم حقوق الإنسان، والفجوة بين النصوص والواقع المعاصر.
هيمنة التأويلات البشرية: من النص الإلهي إلى الفوضى الفقهية
يُفترض أن تكون النصوص القرآنية والنبوية مرجعية نهائية، لكنها، في الواقع، تخضع لتأويلات بشرية جعلت من الشريعة ساحة للتناقضات. لننظر إلى أمثلة محددة
الخــــــــــمر
يُظهر القرآن تدرجًا في التعامل مع الخمر، من وصفه كـ"رزق حسن":
"وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (النحل: 67)،
إلى النهي عن الصلاة حال السكر:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء: 43)،
وصولاً إلى وصفه بـ"رجس من عمل الشيطان":
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة: 90).
عبارة "فاجتنبوه" ليست تحريماً صريحاً، لكن الفقهاء، مستندين إلى أحاديث واجتهادات، حولوها إلى حظر مطلق. الإمام مالك اعتبر كل مسكر حرامًا، بينما أبو حنيفة ربط التحريم بحالة السكر، لا بالمادة نفسها. هذا الاختلاف يكشف كيف يمكن لنص واحد أن يُنتج أحكاماً متظاربة، مما يطرح تساؤلاً: هل التحريم إلهي فعلاً، أم هو نتاج تأويلات مشروطة بالسياقات التاريخية؟
الــــــــــربا
تحريم الربا واضح في القرآن:
"وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ" (البقرة: 275)،
لكن تعريفه وتطبيقه محل نزاع. الشافعي يرى أي زيادة في القرض ربا، بينما أجاز أبو حنيفة الربا مع غير المسلمين في "دار الحرب". أما البنوك الإسلامية فتتلاعب بالمصطلحات عبر "المرابحة" و"السكوك"، التي تُشبه عملياً الفوائد البنكية التقليدية. إذا كان التحريم إلهيًا، فلماذا يبدو التطبيق خاضعًا للتحايل والتفسيرات الملتوية؟ هذا يعكس أن الشريعة، في جوهرها، ليست نصًا موحداً، بل نسيجًا من الاجتهادات البشرية.
الحــــــــــدود
نصوص الحدود، كقطع يد السارق:
محاور: هيمنة التأويلات البشرية، التصادم مع قيم حقوق الإنسان، والفجوة بين النصوص والواقع المعاصر.هيمنة التأويلات البشرية: من النص (المائدة: 38)،
جــــــــــلد الزاني
"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ" (النور: 2)،
تبدو واضحة، لكن التطبيق يكشف الفوضى. الإمام مالك اشترط قيمة محددة للسرقة، بينما أبو حنيفة طالب بشروط إضافية كالحرز. وفي الزنا، استند بعض الفقهاء إلى أحاديث لفرض الرجم، رغم أن القرآن يقتصر على الجلد. هذا الانتقال من نص إلى حكم أشد يثير تساؤلاً: هل الرجم من الله، أم من تأويلات بشرية استجابت لثقافة العقوبات القاسية في عصورها؟
لتجسيد هذه الفوضى، تخيّل طبيبًا كتب وصفة: "تناول الدواء يوميًا مع الماء". لكن المرضى، بدلاً من اتباع الوصفة، اختلفوا: أحدهم تناول حبة واحدة، آخر استبدل الماء بعصير، وثالث زاد الجرعة ظنًا بفعالية أكبر. النتيجة؟ لا أحد نفّذ الوصفة كما هي. هكذا الشريعة: النص قد يكون إلهيًا، لكن التطبيق بشري، مشروط بالثقافة، السياسة، والحدود الفكرية لكل عصر. وجود المذاهب الفقهية (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي) والفرق العقدية (السنة، الشيعة) يزيد من هذه الفوضى، حيث يصبح اختيار التأويل مسألة سلطة، لا حقيقة مطلقة. إذا كانت الشريعة إلهية، فلماذا تحتاج إلى هذا الكم من الشروح والتفسيرات؟ أليس هذا دليلاً على أننا نتعامل مع بناء بشري يُسقط قدسيته على النصوص؟
التصادم مع قيم حقوق الإنسان: هل الشريعة عفا عليها الزمن؟
يُنظر إلى بعض الأحكام الشرعية على أنها تتعارض مع قيم حقوق الإنسان، مما يضع الشريعة في موقف دفاعي. أحكام مثل القوامة:
"الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ" (البقرة: 228)،
أو اشتراطات الطلاق تُفسر غالبًا بطريقة تُكرس عدم المساواة بين الجنسين. كذلك، أحكام تتعلق بالأقليات، كالجزية:"قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة: 29)،
تُعتبر تمييزية في سياق ينادي بالمواطنة المتساوية. أما الحدود، كالجلد أو الرجم، فتُدان بشدة كانتهاك للمعايير الإنسانية. حتى لو كانت هذه الأحكام مفهومة في سياقها التاريخي، فإن تطبيقها اليوم يثير تساؤلات عن مدى ملاءمتها لعالم يقدّس الحرية والكرامة.
الدفاع التقليدي عن هذه الأحكام يستند إلى "السياق" أو "الروح المقاصدية"، لكن هذا الدفاع نفسه يعترف ضمنًا بأن النصوص لا يمكن تطبيقها حرفيًا. إذا كان التطبيق يتطلب إعادة تأويل مستمرة، فما الذي يبقى من "الإلهية" المزعومة؟ ألا يتحول النص إلى مجرد إطار رمزي يُعاد تشكيله حسب قيم كل عصر؟ هذا يقودنا إلى استنتاج نقدي: الشريعة، كما تُمارس، ليست تعبيرًا عن إرادة إلهية ثابتة، بل عن تفسيرات بشرية تتكيف – أو تفشل في التكيف – مع الواقع.
تحديات الواقع المعاصر: هل الشريعة قابلة للحياة؟
يواجه تطبيق الشريعة في الدولة الحديثة عقبات هائلة. الاقتصاد العالمي، المعتمد على الفوائد البنكية، يجعل تحريم الربا شبه مستحيل دون إعادة هيكلة جذرية للنظام المالي. أحكام الحدود تتعارض مع القوانين الدولية وتثير رفضًا اجتماعيًا، حتى في المجتمعات المسلمة. قضايا الحريات الفردية، كحرية التعبير أو المعتقد، تصطدم بأحكام الردة التقليدية. وتطرح التعددية الثقافية تحديًا آخر: كيف يمكن فرض شريعة في مجتمعات متعددة الديانات دون إقصاء الأقليات؟
الدعوات لتطبيق الشريعة غالبًا ما تتجاهل هذه التعقيدات، مكتفية بشعارات القداسة. لكن الواقع يكشف أن الشريعة، كما فُهمت تاريخيًا، صُممت لسياقات قبلية أو زراعية، لا لعالم متشابك تكنولوجيًا واقتصاديًا. محاولات التحديث، كالبنوك الإسلامية أو القوانين الدستورية، غالبًا ما تكون شكلية، تحافظ على الخطاب الديني دون تغيير جوهري. هذا يثير سؤالاً نقديًا: هل الشريعة قابلة للتطبيق في الدولة الحديثة، أم أنها أصبحت رمزًا ثقافيًا أكثر من كونها نظامًا عمليًا؟
التعدد المذهبي: سلطة التأويل وسياسة القداسة
تعدد المذاهب الفقهية والفرق العقدية يكشف عن هشاشة فكرة "الشريعة الموحدة". كل مذهب يدّعي امتلاك التفسير الصحيح، مما يحول الشريعة إلى ساحة صراع على السلطة. اختيار مذهب معين في الدولة الحديثة ليس قرارًا دينيًا محضًا، بل سياسيًا يخدم أجندات معينة. هذا التعدد يعزز الفكرة النقدية: إذا كانت الشريعة إلهية، فلماذا تبدو مشتتة إلى هذا الحد؟ أليس التعدد دليلاً على أننا نتعامل مع تأويلات بشرية تتنافس على الهيمنة بدلاً من حقيقة مطلقة؟
الخلاصة: الشريعة بين القداسة والواقع
الشريعة الإسلامية، رغم إلهية مصدرها المزعوم، بشرية في تطبيقها. تعدد التأويلات، التصادم مع قيم حقوق الإنسان، وتحديات الواقع المعاصر تكشف أن ما يُسمى "الشريعة" هو نتاج اجتهادات بشرية، مشروطة بالتاريخ والثقافة. السؤال النقدي الأعمق هو: هل نتبع كلام الله، أم كلام الناس عن الله؟ وإذا كانت الشريعة تتطلب إعادة تأويل مستمرة لتتوافق مع العصر، فما الذي يبقى من إلهيتها؟ الدعوة إلى تطبيق الشريعة في الدولة الحديثة تتطلب شجاعة نقدية لمواجهة هذه الأسئلة، بدلاً من الاختباء وراء خطاب القداسة. الحوار بين العلماء، المفكرين، والمجتمع ضروري، ليس فقط لإعادة صياغة الأحكام، ب للتساؤل عما إذا كانت الشريعة، كما نعرفها، قادرة على قيادة مجتمعات القرن الحادي والعشرين، أم أنها أصبحت عبئًا رمزيًا يعيق التقدم أكثر مما يلهمه.
بسام القريشي
Mary Mary 9 שעות
سؤال متداول دائما بين الناس هل الشريعة قادرة على قيادات مجتمعات القرن الحادي والعشرين ام انها فعلا أصبحت حقا عبئا كبيرا على العقول عبئا رمزيا يعيق التقدم أكثر مما يطوره اي شريعة هذه ،انها ليست شريعة إنسانية أنها شريعة غاب يتفننون بقوانينها حسب مصالحهم الخاصة حتى يقللون من شأن الإنسان ويحملونه العبء والمسؤولية ويزرعون بداخله الهيمنة والوحشية ويلقون الرعب في النفوس حتى لا تتنفس الا بإذنهم وتحت مسمى الشريعة التي يزعمونها ،انها أخطاء مغلوطة يزعمون أن الشريعة تمثل كلام الله لكنها في الحقيقة لا تمت بأي صلة لله ،الله دعى للرحمة للتآلف بين القلوب ،الشريعة ليست تفسيرات دينية هي مجرد تأويلات بشرية متغيرة عبر العصور حسب الزمان وحسب العقول المتخلفة ،لم ولن تصلح أن تكون الشريعة قانونا لدولة مدنية حديثة تدعو إلى التطور والتقدم ،نحن أمام محاور كبيرة ألا وهي ..تناقضات التأويلات البشرية في مسائل كالخمر والربا،تعارضها مع حقوق الإنسان وتحديات الواقع المعاصر ،مانوهت إليه في هذه المقالة أمور مهمة جدا تستحوذ على الاهتمام والوقوف عندها وقفة عقلانية وموضوعية ،سؤال يتطلب حقا الاهتمام به هل الشريعة هي كلام الله ام نها مجرد تأويلات من نفوس مريضة وعقول متحجرة ،اعتقد أنها تأويلات لا غير .أن كان القرآن كلاما الهيا لا يحتوي تحريف وتزييف لماذا هم يحرفون الشريعة على هواهم وحسب مصالحهم ،اليس من الضرورة الوقوف عندها ومنعها من التداول ،لو كانت هذه الممارسات مجدية لما وجدت انتقادات لاذعة من قبل الأغلب ،تلك التأويلات أدت إلى فوضى فقهية لا يوجد احد قادر على تفسيرها أو مرجع لها نظامي إنما تنبع من عقول بشرية ليست إلا لتهيمن
على النفوس ،هل التحريم الهي فعلا ام هو نتاج اعتقادات مشروطة بالسياقات التاريخية ،سؤال طرحته في مقالتك مهم جدا استاذ بسام ،ليتنا نلقى جوابا عليه مقنع ويرضي الجميع ،ماتوصلته من خلال قراءة مقالتك هو أن الشريعة في جوهرها ليست نصا موحدا بل نسيجا من الاجتهادات البشرية تحياتي لعمق افكارك ولعقلك المبدع في اختيار كل ماهو مميز ونفيس ونادر جدا ،تطرقت إلى صورة جميلة تعبر عن جوهر المقال عندما تحدثت عن وصفة الطبيب التي كتبها لمرضاه وكل مريض تناولها حسب مفهومه وبذلك اختلط الغلط بالصح وهكذا هي الشريعة كل انسان يطبقها حسب عقليته فبذلك توصلنا إلى خلل كبير تفاقم مع الزمن ،واصبحت مسألة الشريعة هي سلطة ليست حقيقة مطلقة ودوما مع الاسف الشعب هو المتضرر من كل هذه التأويلات وله الله في كل ماألى إليه من ضرر وتهويل ،نحن حقا نتعامل مع بناء بشري يسقط قدسيته على النصوص ؟
نحن نتمنى أن تكون الشريعة عفا عليها الزمن وماتت ،كل ماتطرقت إليه استاذي في مقالتك أمور مهمة جدا استخلصت زبد الكلام وجوهره ،نتوصل في النهاية إلى إن الشريعة غير قابلة للحياة ،لانها تواجه عقبات هائلة تقف في طريقها والسبب في ذلك هو الخطأ في تطبيقها وليست لأنها غلط ،فالشريعة صممت لسياقات قبلية وليس لعالم متقدم تكنولوجيا وعلميا ،هنا تحولت الشريعة إلى ساحة صراع على السلطة كل يختار مذهب حسب معتقده ،وكل مذهب يدّعي امتلاك التفسير الصحيح،فأصبح اختيار المذهب في الدولة ليس قرارا دينيا محّضا إنما قرارا سياسيا يخدم أجندة معينة هنا نتوصل إلى حقيقة مطلقة أننا نتعامل مع تأويلات بشرية تتنافس على الهيمنة بدلا من حقيقة مطلقة .
أحييك والف الف تحية لعقلك الناضج وفكرك المشتعل نورا ،جهودك مقدرة دوما استاذي العزيز كل ما تقدمه هو مفيد ،مقالتك جاءت في وقتها لعل كل من يقرأها يعرف أن حقيقة الشريعة ليس كما يدّعون ،حبذا لو تنشر مقالك في عدة مجالات لتلهم العقول التائهة عن الحقيقة وتحيدها إلى طريق الصواب والحق ،الى المزيد من الاجتهاد والتقدم استاذ بسام .